فصل: تفسير الآية رقم (141):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (141):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [141].
وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} تمهيد لما سيأتي من تفصيل أحوال الأنعام. أي: هو الذي أنعم عليكم بأنواع النعم، لتعبدوه وحده، فخلق لكم بساتين من الكروم وغيرها معروشات، أي: مسموكات بما عملتم لها من الأعمدة. يقال: عرشت الكرم إذا جعلت له دعائم وسمكاً تعطف عليه القضبان {وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} متروكات على وجه الأرض لم تعرش {وَ} أنشأ: {النَّخْلَ} المثمر لما هو فاكهة وقوت {وَالزَّرْعَ} المحصل لأنواع القوت: {مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ} أي: ثمره وحَبّه في اللون والطعم والحجم والرائحة {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً} في اللون والشكل، ورقهما: {وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} في الطعم: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} أي: كلوا من ثمر كل واحد مما ذكر، إذا أدرك.
قال الرازي: لما ذكر تعالى كيفية خلقه لهذه الأشياء، ذكر ما هو المقصود الأصليّ من خلقها، وهو انتفاع المكلفين بها، فقال: {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ} واختلفوا ما الفائدة منه؟ فقال بعضهم: الإباحة. وقال آخرون: بل المقصود منه إباحة الأكل قبل إخراج الحق، لأنه تعالى لما أوجب الحق فيه كان يجوز أن يحرم على المالك تناوله، لمكان شركة المساكين فيه، بل هذا هو الظاهر. فأباح تعالى هذا الأكل، وأخرج وجوب الحق فيه من أن يكون مانعاً من هذا التصرف. وقال بعضهم: بل أباح تعالى ذلك ليبين أن المقصد بخلق هذه النعم إما الأكل، وإما التصدق، وإنما قدم ذكر الأكل على التصدق، لأن رعاية النفس مقدمة على رعاية الغير. قال تعالى: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77] انتهى.
{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قُرئ بفتح الحاء وكسرها. وهذا أمر بإيتاء من حضر يومئذ ما تيسر، وليس بالزكاة المفروضة- وهكذا قال عطاء- أي: لأن السورة مكية، والزكاة إنما فرضت بالمدينة. وكذا قال مجاهد: إذا حضرك المساكين طرحت لهم منه. وفي رواية عنه: عند الحصاد يعطي القبضة، وعند الصرام يعطي القبضة ويتركهم يتبعون آثار الصرام. وهكذا روي عن نافع وإبراهيم النَّخَعِي وغيرهم. وعند هؤلاء أن هذا الحق. باق لم ينسخ بالزكاة، فيوجبون إطعام من يحضر الحصاد لهذه الآية. ومما يؤيده أنه تعالى ذم الذي يصرمون ولا يتصدقون، حيث قص علينا سوء فعلهم وانتقامه منهم. قال تعالى في سورة (ن): {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم: 17- 20]، أي: كالليل المدلَهمّ، سوداء محترقة {فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} [القلم: 21- 24] الآيات.
وذهب بعضهم إلى أن هذا الحق نسخ بآية الزكاة، حكاه ابن جرير عن ابن عباس وثلة من التابعين. قال ابن كثير: في تسمية هذا نسخاً نظر، لأنه قد كان شيئاً واجباً. ثم إنه فسر بيانه وبين مقدار المخرج وكميته. انتهى.
ولا نَظَرَ، لما عرفت في المقدمة من تسمية مثل ذلك نسخاً عند السلف، ومرَّ قريباً أيضاً، فتذكر!
وذهب بعضهم إلى أن الآية مدنية، ضمت إلى هذه السورة في نظائر لها، بيّناها أول السورة، وأن الحق هو الزكاة المفروضة. روي عن أنس وابن عباس وابن المسيّب.
والأمر بإيتائها يوم الحصاد، للمبالغة في العزم على المبادرة إليه. والمعنى: اعزموا على إيتاء الحق واقصدوه، واهتموا به يوم الحصاد، حتى لا تؤخروه عن أول وقت يمكن فيه الإيتاء. قال الحاكم: وقيل: إنما ذكر وقت الحصاد تخفيفاً على الأرباب، فلا يحسب عليهم ما أكل قبله.
وقد روى العوفيّ عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا زرع فكان يوم حصاده، لم يُخرج مما حصد شيئاً، فقال تعالى: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وذلك أن يعلم ما كيله وحقه من كل عشرة واحد، وما يلقط الناس من سنبله.
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود عن جابر بن عبد الله قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل جادّ عشرة أوسق من التمر، بقنوٍ يعلق في المسجد للمساكين».
قال ابن كثير: إسناده جيد قوي.
تنبيه:
قال في الإكليل: استدل بالآية من أوجب الزكاة في كل زرع وثمر، خصوصاً الزيتون والرمان المنصوص عليهما. ومن خصها بالحبوب، قال: إن الحصاد لا يطلق حقيقة إلا عليهما. وفيها دليل على أن الزكاة لا يجب أداؤها قبل الحصاد. واستدل بها أيضاً على أن الاقتران لا يفيد التسوية في الأحكام، لأنه تعالى قرن الأكل، وهو ليس بواجب اتفاقاً، بالإيتاء، وهو واجب اتفاقاً. انتهى.
وقوله تعالى: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} النهي عن الإسراف، إما في التصدق، أي: لا تعطوا فوق المعروف. قال أبو العالية: كانوا يعطون يوم الحصاد شيئاً ثم تبادروا فيه وأسرفوا، فنزلت: {وَلاَ تُسْرِفُواْ}. وقال ابن جريج: نزلت في ثابت ابن قيس بن شماس. جدَّ نخلاً له فقال: لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته، فأطعم حتى أمسى وليس له ثمرة، فنزلت. ولذا قال السدي: أي: لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء. وإما في الأكل قبل الحصاد، وهذا عن أبي مسلم قال: ولا تسرفوا في الأكل قبل الحصاد كيلا يؤدي إلى بخس حق الفقراء. وإما في كل شيء، قال عطاء: نهوا عن السرف في كل شيء. وقال إياس بن معاوية: ما جاوزْتَ به أمر الله، فهو سرف. اختار ابن جرير قول عطاء. قال ابن كثير: ولا شك أنه صحيح، لكن الظاهر- والله أعلم- من سياق الآية، حيث قال تعالى: {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} أن يكون عائداً على الأكل. أي: لا تسرفوا في الأكل، لما فيه من مضرة العقل والبدن، كقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف 31] الآية.
وفي صحيح البخاري تعليقاً: كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير إسراف ولا مخيلة. وهذا من هذا- والله أعلم- انتهى.
وقد جنح إلى هذا المهايمي في تفسيره حيث قال: ولا تسرفوا في أكلها لئلا يبطل، باستيفاء الشهوات، معنى المزرعة.
ثم بين تعالى حال الأنعام، وأبطل ما تقوّلوا عليه في شأنها بالتحريم والتحليل، بقوله:

.تفسير الآية رقم (142):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [142].
{وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً} أي: وأنشأ لكم من الأنعام ما يحمل الأثقال، وما يفرش للذبح- أي: يضجع- أو ينسج من وبره وصوفه وشعره الفرش.
وعن ابن عباس: الحمولة الكبار التي تصلح للحمل، والفرش الصغير كالفصلان والعجاجيل والغنم؛ لأنها دانية من الأرض، للطافة أجرامها، مثل الفرش المفروش عليها. فعلى الوجهين الأولين: الفرش بمعنى المفروش، وعلى الثالث: الكلام على التشبيه.
{كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} أي: من الثمار والزروع والأنعام، لحفظ الروح، واستزادة القوة.
{وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} أي: أوامره في التحليل والتحريم، كما اتبعها أهل الجاهلية، فحرموا ما رزقهم الله افتراء عليه- كما مرّ-.
{إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} أي: ظاهر العداوة، يمنعكم مما يحفظ روحكم، ويزيد قوتكم، ويدعوكم إلى الافتراء على الله إن نسبتموه إلى أمره، أو إلى دعوى الإلهية لكم إن استقللتم به.

.تفسير الآية رقم (143):

القول في تأويل قوله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [143].
وقوله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} بدل: {حَمُولَةً وَفَرْشاً} أو مفعول {كُلُوا}. {وَلاَ تَتَّبِعُوا} معترض بينهما، أو فعل دل عليه، أو حال من ما بمعنى مختلفة أو متعددة. والزوج ما معه آخر من جنسه يزاوجه. قال تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [النجم: 45]، وقد يقال لمجموعهما، والمراد الأول.
{مِنَ الضَّأْنِ} زوجين: {اثْنَيْنِ} الكبش والنعجة: {وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} التيس والعنز {قُلْ} أي: تبكيتاً لهم، وإظهار لانقطاعهم عن الجواب: {آلذَّكَرَيْنِ} من الضأن والمعز: {حَرَّمَ} الله عليكم أيها المشركون: {أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} منهما: {أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ} أي: أم ما حملت إناث الجنسين ذكراً كان أو أنثى، كما قالوا: {مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَة} [الأنعام 139] الآية.
{نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ} أي: بدليل نقلي من كتب أوائل الرسل، أو عقلي في الفرق بين هذين النوعين، والنوعين الآتيين- قاله المهايمي-.
{إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي: في دعوى التحريم.
وفي قوله تعالى: {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ} تكرير للإلزام وتثنية للتبكيت والإفحام.

.تفسير الآية رقم (144):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [144].
{وَمِنَ الْأِبِلِ اثْنَيْنِ} عطف على قوله تعالى: {مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ} أي: وأنشأ من الإبل اثنين هما الجمل والناقة {وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} ذكراً وأنثى {قُلْ} أي: إفحاماً لهم أيضاً في هذين النوعين: {آلذَّكَرَيْنِ} منهما: {حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ} أي: من ذينك النوعين. والمعنى إنكار أن الله سبحانه وتعالى حرم عليهم شيئاً من الأنواع الأربعة، وإظهار كذبهم في ذلك. وتفصيل ما ذكر من الذكور والإناث وما في بطونها- للمبالغة في الرد عليهم بإيراد الإنكار على كل ممادة من مواد افترائهم. فإنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة وإناثها تارة وأولادها كيفما كانت تارة أخرى. مسندين ذلك كله إلى الله سبحانه. وإنما عقب تفصيل كل واحد من نوعي الصغار ونوعي الكبار بما ذكر من الأمر بالاستفهام والإنكار مع حصول التبكيت بإيراد الأمر عقيب تفصيل الأنواع الأربعة بأن يقال: قل آلذكور حرم أم الإناث أم ما اشتملت عليه أرحام الإناث- لما في التثنية والتكرير من المبالغة في التبكيت والإلزام. أفاده أبو السعود.
ثم كرر الإفحام بقوله تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ} حاضرين: {إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} أي: حين وصاكم بتحريم بعضٍ وتحليله. وهذا من باب التهكم: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} أي: فنسب إليه تحريم ما لم يحرم: {لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي: دليل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} قال ابن كثير: أول من دخل في هذه الآية عَمْرو بن لُحيّ بن قمعة. لأنه أول من غير دين الأنبياء وأول من سيب السوائب ووصل الوصيلة وحمى الحامي. كما ثبت ذلك في الصحيح.
وقال أبو السعود: المراد كبراؤهم المقرّون لذلك. أو عَمْرو بن لُحيّ وهو المؤسس لهذا الشر. أو الكل لاشتراكهم في الافتراء عليه، سبحانه وتعالى.
لطيفة:
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف فصل بين بعض المعدود وبعضه ولم يوال بينه؟
قلت: قد وقع الفاصل بينهما اعتراضاً غير أجنبي من المعدود. وذلك أن الله عز وجل منّ على عباده بإنشاء الأنعام لمنافعهم وبإباحتها لهم. فاعترض بالاحتجاج على من حرمها. والاحتجاجُ على من حرمها تأكيد وتسديد للتحليل. والاعتراضات في الكلام لا تساق إلا للتوكيد. انتهى.
تنبيه:
دلت الآية على إباحة لحوم أكل الأنعام. وذلك معلوم من الدين ضرورة. وكذلك الانتفاع بالركوب فيما يركب، والافتراش للأصواف والأوبار والجلود. وعلى ردّ ما كانت الجاهلية تحرّمه بغير علم.
قال المؤيد بالله: ويدخل الإنسيّ والوحشيّ في قوله: {مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ}. وردّ بأن قوله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} بيان للأنعام. والأنعام لا تطلق على الوحشي. أفاده بعض مفسري الزيدية.
ثم أمر تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم- بعد إلزام المشركين وتبكيتهم وبيان أن ما يتقوّلونه في أمر التحريم افتراء بحت- بأن يبين لهم ما حرمه عليهم، فقال سبحانه:

.تفسير الآية رقم (145):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [145].
{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} أي: طعاماً محرماً من المطاعم: {عَلَى طَاعِمٍ} أي: أي: طاعم كان من ذكر أو أنثى. رداً على قولهم: {مُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} وقوله: {يَطْعَمُهُ} لزيادة التقرير: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ} أي: ذلك الطعام: {مَيْتَةً}. قال المهايمي: والموت سبب الفساد. فهو منجس، إلا أن يمنع من تأثيره مانع من ذكر اسم الله، أو كونه من الماء، أو غيرهما: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} أي: سائلاً لا كبداً أو طحالاً: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} لتعوده أكل النجاسات: {أَوْ فِسْقاً} أي: خروجاً عن الدين الذي هو كالحياة المطهّرة: {أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} أي: ذبح على اسم الأصنام ورفع الصوت على ذبحه باسم غير الله. وإنما سمي {مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ} فسقاً، لتوغله في باب الفسق ومنه قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} {فَمَنِ اضْطُرَّ} أي: أصابته الضرورة الداعية إلى تناول شيء مما ذكر: {غَيْرَ بَاغٍ} أي: على مضطر مثله، تارك لمواساته: {وَلا عَادٍ} متجاوز قدر حاجته من تناوله: {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيم} لا يؤاخذه. وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة والمائدة بما فيه كفاية.
تنبيهات:
الأول- قال ابن كثير: الغرض من سياق هذه الآية الكريمة الردّ على المشركين الذين ابتدعوا ما ابتدعوا من تحريم البَحِيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك. فأمر تعالى رسوله أن يخبرهم أنه لا يجد فيما أوحاه إليه أن ذلك محرم. وأن الذي حرمه هو الميتة وما ذكر معها. وما عدا ذلك فلم يحرم. وإنما هو عفو مسكوت عنه. فكيف تزعمون أنه حرام؟ ومن أين حرمتموه ولم يحرمه تعالى؟ وعلى هذا، فلا ينفي تحريم أشياء أُخَر فيما بعد هذا. كما جاء النهي عن لحوم الحمر الأهلية ولحوم السباع وكل ذي مخلب من الطير- انتهى- وبالجملة فالآية تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يجد فيما أوحي إليه إلى تلك الغاية غيره. ولا ينافيه ورود التحريم بعد ذلك في شيء آخر، كالموقوذة والمنخنقة والمتردية والنطيحة وغيرها. وذلك لأن هذه السورة مكية. فما عدا ما ذكر تحريمه فيها مما حرم أيضاً، طارئ. قيل: إذا حرم غير ما ذكر كان نسخاً لما اقتضته هذه الآية من تحليله. وجوابه أن ذلك زيادة تحريم وليس بنسخ لما في الآية. فصحّ تحريم كل ذي ناب من السبع ومخلب من الطير. ومن الناس من يسمي هذا نسخاً بالمعنى السلفيّ. وقد بيّناه مراراً.
قال بعض الزيدية: وقد تعلق ابن عباس بالآية في تحليل لحم الحمر الأهلية. وعائشة في لحوم السباع. وعكرمة في إباحة كل شيء سوى ما في الآية. وعن الشعبي، أنه كان يبيح لحم الفيل ويتلو هذه الآية.
ولا تعلق لجميعهم بالآية. لأنه تعالى بين ما يحرم في تلك الأحوال. انتهى.
وقال السيوطي في الإكليل: أحتج بها كثير من السلف في إباحة ما عدا المذكور فيها. فمن ذلك الحمر الأهلية، أخرجه البخاري عن عَمْرو بن دينار قال: قلت لجابر بن يزيد: يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن حُمرُ الأهلية. فقال: قد كان يقول ذلك الحكم بن عَمْرو الغفاريّ عندنا بالبصرة. ولكن أبى ذلك البحرُ ابن عباس وقرأ: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ} الآية. وأخرج أبو داود عن ابن عمر أنه سئل عن أكل القنفذ؟ فقرأ: {قُل لاَّ أَجِدُ} الآية. وأخرج ابن أبي حاتم وغيره. بسند صحيح عن عائشة أنها كانت إذا سئلت عن كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير؟ تَلَتْ: {قُل لاَّ أَجِدُ} الآية. وأخرج عن ابن عباس أنه قال: ليس من الدواب شيء حرام إلا ما حرم الله في كتابه {قُل لاَّ أَجِدُ} الآية. انتهى.
وأخرج أبو داود عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذراً. فبعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه. فما أحل فهو حلال وما حرّم فهو حرام. وما سكت عنه فهو معفوّ. وتلا: {قُل لاَّ أَجِدُ} الآية.
وذكرنا ضعف التعلق بهذه الآية على ما ذهبوا إليه.
قال في فتح البيان: معنى الآية أنه تعالى أمره صلى الله عليه وسلم بأن يخبرهم أنه لا يجد في شيء مما أوحي إليه محرّماً غير هذه المذكورات. فدل على انحصار المحرمات فيها، لولا أنها مكية. وقد نزل بعدها بالمدينة سورة المائدة وزيد فيها على هذه المحرمات: المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة. وصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير وتحريم الحمر الأهلية والكلاب، ونحو ذلك.
بالجملة، فهذا العموم إن كان بالنسبة إلى ما يؤكل من الحيوانات، كما يدل عليه السياق ويفيده الاستثناء، فيضم إليه كل ما ورد بعده في الكتاب أو السنة مما يدل على تحريم شيء من الحيوانات. وإن كان هذا العموم هو بالنسبة إلى كل شيء حرمه الله من حيوان وغيره، فإنه يضم إليه كل ما ورد بعده مما فيه تحريم شيء من الأشياء. وقد روي عن ابن عباس وابن عمر وعائشة، أنه لا حرام إلا ما ذكره الله في هذه الآية وروي ذلك عن مالك. وهو قول ساقط ومذهب في غاية الضعف لاستلزامه لإهمال غيرها، مما نزل بعدها من القرآن، وإهمال ما صح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال بعد نزول هذه الآية. بلا سبب يقتضي ذلك ولا موجب يوجبه. وقول جابر لكن أبى ذلك البحر ابن عباس في رواية البخاريّ المتقدمة، أقول: وإن أبى ذلك البحر، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والتمسك بقول صحابيٍّ في مقابلة قول النبيّ صلى الله عليه وسلم من سوء الاختيار وعدم الإنصاف. انتهى كلام الفتح.
وفي نيل الأوطار: الاستدلال بهذه الآية إنما يتمّ في الأشياء التي لم يرد النصّ بتحريمها. وأمّا الحمر الإنسية فقد تواترت النصوص على ذلك. والتنصيص على التحريم مقدم على عموم التحليل، وعلى القياس. وأيضاً الآية مكية. انتهى.
وقد ثبت عن ابن عمر رجوعه عن التعلق بعمومها.
روى سيعد بن منصور والإمام أحمد وأبو داود عن نميلة الفزازي قال: كنت عند ابن عمر، وإنه سئل عن أكل القنفذ فقرأ عليه: {قُل لاَّ أَجِدُ}.. الآية. فقال شيخ عنده: سمعت أبا هريرة يقول: ذُكِرَ عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: خبيث من الخبائث. فقال ابن عمر: إن كان النبيّ صلى الله عليه وسلم قاله فهو كما قال.
أي والخبائث محرّمة بنص القرآن، فهو مخصص لعموم هذه الآية.
وعن المقدام بن معدي كرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله. فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه. وما وجدنا فيه حراما حرمناه. وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله تعالى». أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب.
ولأبي داود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه. لا يوشك رجل شبعانُ على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه. وما وجدتم فيه حرام فحرموه. ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهليّ ولا كل ذي ناب من السبع ولا لُقَطَةُ معاهد ألا أن يستغني عنها صاحبها. ومن بزل بقوم فعليهم أن يَقْرُوه. فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه».- أي: يأخذ منهم عوضاً عما حَرَموه من القرى-.
هذا والزمخشري فسر محرماً بـ طعاماً محرماً من المطاعم التي حرمتموها وجعل الاستثناء منطقاً. أي: لا أجد ما حرمتوه لكم أجد الأربعة محرّمة. وهذا لا دلالة فيه على الحصر حتى ترد المحرمات الأخر. إذ الاستثناء المنقطع ليس كالمتصل في الحصر. وغير الزمخشري لم يقّيده بما ذكر. لأن الأصل الاتصال وعدم التقييد وأوّلوها بما قدمنا قبل. وحينئذ يكون الاستثناء من أعم الأوقات أو أعم الأحوال مفرغاً. بمعنى: لا أجد شيئاً من المطاعم المحرمات في وقت من الأوقات، أو حال من الأحوال، إلا في وقت أو حال كون الطعام أحد الطعام أحد الأربعة. فإني أجد حينئذ محرماً. فالمصدر للزمان أو الهيئة. وفيه أن المصدر المؤول من أن والفعل لا ينصب على الظرفية. ولا يقع حالاً، لأنه معرفة. والله أعلم.
الثاني- في قوله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} إيذان التحريم إنما بالوحي لا بالهوى. قال الشهاب: كني بعدم الوجدان عن عدم الوجود. ومبنى هذه الكناية على أن طريق التحريم التنصيص منه تعالى. وتفسيره بمطلق الوحي استظهروه. ولذا قال: أوحي ولم يقل: أنزل.
الثالث- قال السيوطي في الإكليل: استدل النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} على أنه إنما حرم من الميتة أكلها. وأن جلدها يطهر بالدبغ. فأخرج أحمد وغيره عن ابن عباس قال: ماتت شاة لسودة بنتَ زَمْعَة فقالت: يا رسول الله! ماتت فلانة يعني الشاة فقال: «فلولا أخذتم مَسْكها؟» فقالت: نأخذ مسك شاة قد ماتت؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما قال الله عز وجل: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ}. فإنكم لا تطعمونه. إن تدبغوه تنتفعوا به». فأرسلت إليها فسلختْ مسكها فدبغته، فاتخذت منه قربة، حتى تخرَّقت عندها.
الرابع- استدل بقوله تعالى: {مَّسْفُوحاً} على إباحة غيره. وذلك لأن الدم المسفوح هو ما سال من الحيوان في حال الحياة، أو عند الذبح- لا كالكبد والطحال- وكذا ما اختلط باللحم من الدم لأنه غير سائل. قال عِمْرَان بن جدير: سألت أبا مجلز عما يختلط باللحم من الدم، وعن القدر يرى فيها حمرة الدم فقال: لا بأس بذلك! إنما نهى عن الدم المسفوح.
وقال إبراهيم النَّخَعِي: لا بأس بالدم في عِرقٍ أو مخّ، إلاّ المسفوح.
وقال عِكْرِمَة: لولا هذه الآية لتتبع المسلمون الدم من العروق ما تتبع اليهود.
ثم بيّن تعالى أنه حرم على اليهود أشياء أخرى غير هذه الأربعة، تحقيقاً لافتراء المشركين فيما حرّموه، إذْ لم يوافق شيئاً مما أنزله تعالى،فقال سبحانه: